The following post is written by one of my dear students, Eman Fadl.
تبدأُ الحكاية مثل كل الحكايا بقلوبٍ تدق.بحفنةٍ من الحماس نظن أننا قادرين على أن نطوي العالم في كف إيدينا..أننا قادرين بالصدق والحب أن نحقق ما نريد وأنه وإن كانت كل الأحلام مستحيلة ،فبعضها ممكن ،وأن بعض الأحلام تليق بنا أكثر من غيرنا وأنها خـُلقت لنا وخُلقنا لها.
تفاجئنا الحياة أن حلماً واحداً كان يكفينا وكنا نتمناه ونكتفي به عاندته الحياة ووقفت في وجهه.ننسى أنه ربما للأقدار أقوالٌ أخرى.
في غرور نقفُ على رأس همزة الأمل ثم تتحول وقفتنا إلى ياء الخيبة الممدودة وتائها المربوطة.نجهر بالحب والألم فلا يعنينا أن نبوء بالخذلان أو أن نقف على الحافة.لا يعنينا السقوط لأننا سقطنا قبل ذلك.لا يعنينا السقوط لأننا تعلمنا كيف نتسلق الحافة من جديد.لا تخيفنا الحافة لأننا اختبرنا أقسى مشاعر الألم والخوف والحزن والترقب.اختبرنا القاع فلم يعد شيئا جديداً.لا نتفاجأ من أنفسنا حينما ينادون على أولئك الذين لم ينجوا من الحياة فنردُ عليهم من قلب الهاوية.نكونُ أول من يرفع يده أنه لم ينجُ من الحياة ، أول من يعترف بذلك.
في الهاوية قد يبدو الأمر أننا نقضي عقوبة من نوع ما ، ولكن ما سنكتشفه لاحقاً أننا بقينا عمرنا كله خارج الهاوية نقضي عقوبة أشد.لا يحتاج المرء منا إلى زنزانة لكي يشعر أنه يقضي عقوبة.لا يحتاج المرء منا إلى قضبان ليشعر أنه يفي بحكم حـُكم به عليه كتلك الأحكام المؤبدة..فلربما يسجن المرء ذاته داخل آماله وأفكاره وطموحاته.يقضي العمر متنقلاً بينهم ، كل فكرة بزنزانة ، كل حلم بقضبان..من زنزانة إلى زنزانة ،فلا ينعم قلبه بالحرية ليوم واحد ولو كان يعيش في فضاء شاسع.
يسجن المرء ذاته داخل آمال محاطة باسلاكٍ شائكة..يظن أن عدم تحقيق هذه الآمال هو بمثابة عبور السلك الشائك الذي سيمزقه إرباً.
يخشى أن ينظر أمام السلك الشائك.لا يفكر ولو مرة واحدة أن هذا السلك هو من صنعه ،هو من يستطيع أن يزيله أو يتخذ قرارا بعبوره.لا يفكر ولو لمرة واحدة أنه خلف هذا السلك فضاءات رحبة..عوالَم أخرى يستطيع أن يصنع فيها آمالاً أخرى..أراضٍ أخرى غير الأراضي الخاطئة التي زرع فيها ذاته.
يسقط المرء في أمنياته كما يسقط في حقل ألغام حينما يفكر أنه هناك فرصة للهروب والنجاة برفع قدمه عن اللغم ،ينتهي كل شيء.
يسجن المرء قلبه بين أربعين ضلعاً ويبقى أسيراً لأمنياته.يقضي مدة الحبس الاحتياطي منتظراً تحقيقها ثم تبدأ العقوبة الحقيقية عندما يعجز عن ذلك ،فَيُنَصْب نفسه قاضيا على نفسه في محكمة يكون هو فيها الضحية والجلاد.
نحن نُسجن أول ما نسجن من قلوبنا ونتحرر أول ما نتحرر من هناك.فقد يحلق المرء بقلبه ولو كان بين أربع جدران . القلب وحده هو القادر على التحليق إن توقف فنحن لا نعيش.لسنا بحاجة إلى أعداء لنحاربهم.إنا أعداء أنفسنا.ليس أشد عدوا لشخص من ذاته التي كانت تمر عليها السنوات ،يتغير الكون ويتجدد بينما يقف هو عند الحلم الأول..الفكرة الأولى..الخفقة الأولى ، لا يستطيع تجاوزهم.تكون كل الأشياء الأولى بالنسبة له بمثابة إصبع الديناميت ينفجر مرة واحدة ،يحدث شرارة كبيرة وضوء كبير مرة واحدة ثم يخلف وراءه دماراً كبيراً وبعدها تصبح كل الأشياء تالفة غير قابلة للاستخدام أو الإصلاح.
نعم.. نبدأ الحكايات وننهيها ومع كل نهاية تنقص منا أشياء لا تعود.لا تعود أبدا ،لكننا على الأقل يجب أن نعرف طريق العودة لأنفسنا.
في الهاوية تكون هناك فرصة للتفكير والتفكير الكثير...للتأمل والتدبر والعودة إلى الوراء.نضع حقيقة أنفسنا أمام أنفسنا ،نحطم غرورها بالكشف عن أخطائها.تكون هناك فرصة أن نقرأ أنفسنا من أول سطر حتى آخر سطر ،نضع العنوان المناسب على غلاف كتاب يليقُبإخفاقاتنا أو دورة حياة سنواتنا الأهم التي نحتتنا وانتزعت منا قشرة وراة قشرة حتى عنَّ الجوهر الكامن فينا.تثبت مقولة الرومي "لا يزال المرءُ أُميَّا حتى يقرأ ذاته".تكون هناك فرصة أن نواجه أنفسنا بالحقيقة المُرة رغم ما تسببه لنا من أذى كبير.
نفتح الغرف المظلمة في القلب ،نعيد ترتيب أولوياته ،نتخلص من الأشياء المتراكمة فيه والغير مهمة..الشظايا المتكسرة..بقايا الأحلام والأمنيات وبقايا البشر.نسمح للشمس أن تطل عليها ، ننظف الجراح من الداخل قبل أن نبدأ فعلياً في حياكتها.من تلك الثقوب التي في القلب ننظر إلى عين الحقيقة التي كنا نخفيها عن أنفسنا لأنها كانت تؤذينا..حقيقة فشلنا وخيباتنا وحقيقة أننا كنا مسؤلين أيضاً عما صرنا إليه.نطل على الجراح الأخرى التي أخفيناها في العمق معتقدين أنها ستشفى من تلقاء نفسها أو أن الزمن وحده سيشفيها ، فنجد أن ما عوّلنا عليه زاد من حدتها وأن الإنكار لم ينفعنا وأنه بقدر ما أجلنا الدفع كان الثمنُ باهظاً وأنه قد حان وقت الحسابات المؤجلة.
تدرك اليمامة أنه قد انفتح القفص وبقى لها أن تمد يدها خارجا لتنزع عن نفسها القفل الذي انكسر لتتحرر وتحلق بعيداً.
تحمل قلبها الدامي على جناحها المتكسر ترحل وترحل ،تمر عليها أزمان عديدة ،صيف وخريف ثم شتاء وربيع ،فصيف وخريف ثم شتاء آخر وربيع.
ثم ذات شتاء ستمطر بغزارة فلا تتوقف عن اتباع عاداتها القديمة وتخرج لمقابلة الشتاء ،تفتح قلبها على مصراعيه لمياه الأمطار التي تغمر جرحها القديم كما المياه تسير في الشقوق المتصدعة..كترياق يشفي فينمحي أثر الجرح والندبة معا ويزول الغصن المكسور بذكراه من قلبها.هي تعلم أن ما سيشفيها يوماً ما هو الشتاء بأمطاره.
ثم يوماً ما سوف تمشي على ذات الطريق فلا يعرفها ولا تعرفه ويبقى كل شيء في المدى البعيد الباهت.
وحده البيت سيعرفها..وحده البيت سيعرف تلك اليمامة التي أحبته أكثر من الجميع وضمته بين جناحيها وخبأته دهرا تحت جلدها.
وحده البيت الذي عرف إلى أى مدىً من التعقيد يمكن أن تجرفنا الحياة..وحده البيت سيحفظ التواريخ والأحداث ،الأسماء والمشاعر ،وحده البت سيتحول إلى كائن حي ينبض قلبه عند رؤيتها.وحده البيت سيتطلع في ملامحها كما بقيتْ زمنا تتطلع فيه ، يجذبها إليه شيء خفي..أكسير غير مرئي يسير في الهواء ،فتتنفسه ،يصيبها وحدها ولا يصيب أحداً غيرها..تقف كل أشيائه حد قلبها فتخترقه.
كان شيئا من يقينٍ تهشم..يقينٍ في الطريق..يقين في الحب.
وحده البيت سيتذكر هذا اليقين.
وحده البيت سيُسدد ديْن الحب.
#ديْن_الحب
#إيمان_فضل