جاءت قراءتى لكتاب
منى النمورى فى ظرف ملتبس بعد فترة من الإرهاق الذهنى والجسدى والتوقف عن القراءة ،
أردت أن أقرأ عملا خفيفا مبهجا يروح عنى وتحمست لشغفى بالسفر وخصوصا لندن. توسمت فى
الكتاب خفة ظل و ظرف صاحبته التى تعرفت عليها وجها لوجه قبل وقت قصير وأحسست انى
أعرفها منذ سنوات. أعجبنى الغلاف بالفونت
"الكاجوال" و العسكر الإنجليز ومنى تهرول خلفهم حاملة حقائب عدة و جذبنى
التصنيف الواضح "من أدب الرحلات".
على السطح ترى منى
النمورى الأم والزوجة المصرية الصميمة فى رحلة سياحية عائلية أرهقت الأسرة مادياً،
تراها وهي تلهث لإرضاء الجميع ومراعاة اهتماماتهم وتسعى لأن يستمتع كل فرد
"سياحيا" بانجلترا بما يتوافق
مع أذواقهم و أعمارهم. وفى محاولاتها
المضنية لفعل ذلك تطل منى النمورى الأستاذة الجامعية بعلاقتها الملتبسة بانجلترا
(المستعمر) التى درست ودرست أدبها وثقافتها
فتراها تارة منبهرة بالبلاد وأهلها وتارة أخرى منتقدة وحانقة وهو أمر طبيعي
لكل من انغمسوا في الأدب الإنجليزي حتى صار مكونا من مكونات شخصياتهم.
وجدت نفسي أعيد
قراءة بعض الأجزاء- كعادتى فى الأعمال التى تعجبنى- لا أدعى أنى ناقدة رفيعة
المستوى فأنا وبالرغم من دراستى وعملى لست مولعة بالنظريات النقدية ولا التنظير
عموما . ولكنى ازعم أن لدى القدرة على الغوص "عاطفيا" فى بعض الأعمال التى أجد فيها قدرا من ذاتي
الأنثوية المعقدة. أول عبارة جذبتنى بشدة
جاءت فى صفحة 42 عند وصف منى لرغبتها الشديدة لزيارة " حي البحيرات" – ملهم
ووردزوورث و شعراء الحركة الرومانسية- على الرغم من عدم حماس باقى أفراد الأسرة
لذلك : "كان هذا هو اليوم الوحيد الذى تشبثت فيه بجدول الرحلة ...اعتبرته
حلما قديما منسيا جاءتنى فرصة لإدراكه أخيرا، لا يهم كثيرا أننى أحققه وقد تجاوزت
الأربعين، وأنا أجرجر مقطورة ثقيلة اسمها الأسرة". يالله! ياله من صراع بين الذات الأنثوية
المتغلغلة فى أعماق الكاتبة التى تتوق للحرية والتحليق فى سماء الإبداع تحليقا منفردا وتسعى للفكاك من كل الارتباطات
التى أثقلت كاهلها وأجهزت على سنوات شبابها وجزء لابأس به من الصحة والجمال حتى
وإن كانت ارتباطها بالزوج والأولاد. تلك
الذات التى ستظل تنبض بالرغبة فى الحياة و تحقيق الآمال وتعج بالأحلام المؤجلة
ولديها يقين كامن أنها تستطيع فعل كل ماتريد.
على مدار الحكايات
الصغيرة الشيقة والدايلوج الذاتى وحوارها مع أفراد أسرتها نجد لشخصية منى النمورى
جوانب عدة أدركها إبنها الشاب فى أحد
المواقف معلقا بأن هناك العديد من الشخوص تتصارع داخل رأسها. هناك "مدام نظيفة" بنظرتها الواقعية
التقليدية المشغولة بتفاصيل الحياة اليومية والأمورالمنزلية وتربية الأولاد وهناك
منى المثقفة الوطنية المهمومة بمصر وسياستها واقتصادها وماضيها ومستقبلها والمنهمكة
فى المقارنات بين الشرق والغرب ومنى المخططة الإستراتيجية التى تجد حلولا عملية
لكل المشكلات العويصة المتراكمة على كاهل الوطن منذ عقود.
تحت السطح نجد منى النمورى الكاتبة والمبدعة
المتجردة وهى تسعى جاهدة لتجنب "شبشب الإبداع الوردى" الموجه من سحر
الموجى التى تكره الكليشيهات والابتذال وتسعى للفن الراقى. نلمح أيضا لمحات من
رضوى عاشور وتحليلها العميق للأستعمار ومابعد الإستعمار والعلاقة الملتبسة بين
الإمبراطورية و المستعمرين ونرى الناشرة فاطمه البودى وهي تستحثها على إنهاء
الكتاب والتعجيل بتسليمه. تتخفى منى النمورى بكل مفردات ذاتها الأنثوية الغنية
المركبة وراء كل هؤلاء وتثرثر فى الفن والسياسة والإقتصاد والتعليم والسياحة
والأخلاق والحضارات فتشد الثرثرة القارئ حتى ينتهى الكتاب.
برافو صديقتى
الجميلة المثقفة الكاتبة عميقة الفكر مرهفة المشاعر، برافو منى النمورى نجحت فى
نقلى من حال إلى حال أفضل وهذا هو مقياسي الأول للعمل الجيد. فى انتظار المزيد من
السفرات و المزيد من الكتب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق