الثلاثاء، 20 سبتمبر 2022

ما أحلي الرجوع إليها

 ما أحلي الرجوع إليها..



يوميات الأخبار
بقلم د ليلى الغلبان
رئيس قسم اللغة الإنجليزية بآداب كفر الشيخ
حتة طباشير
-----------------
ها قد جاء اليوم المنتظر، ظللت أراوغه لسنوات، أحب أن أترك الأشياء على ما كانت عليه.. الماضي له وهج خاص وكل مفرداته أعتبرها كنوزا شخصية شهدت فصولا من حياتي، صاحبتني وصاحبتها.. وكانت جزءا لا يتجزأ مني ومن صورتي في أذهان من يعرفني..ممنوع الاقتراب..دعي الأشياء كما هي..
قلت في نفسي حين وجدت نفسي أمام هذا الجزء من خزانة الملابس، حيث تسكن عينة من ملابسي القديمة التي كنت أرتديها منذ سنوات، الحلل التونيكات، التيورات، البلوزات، الجواكت، وغيرها. وقفت لبرهة وقد تملكني شعور بالتهيب من لمس أو فحص بعضها، كمن يتهيب من فتح حقيبة مليئة بالأسرار. أدركت منذ زمن بعيد أن أهمية الأشياء لا تكمن في قيمتها المادية، ولكن في كونها بمثابة آلة الزمن، ذاكرة الجسد والروح والأيام تتكلم عنك، تعود بك إلى ذكريات الأمس.. استجمعت بعض طاقتي ومددت يدي تلمس الأشياء.. اندست أصابعي تستعرض بخفة وسكينة .. ترى هل يمكن أن أرتدي بعضا منها مرة أخرى؟ ..لا أظن.. بعدما امتدت يد الزمن وزيادة الوزن لتجعل حلم ارتدائها مستحيلا.. تركت يدي وعيني يتجولان ..دسست أصابعي أكثر لأجد في أحد الجيوب حتة طباشير..ياااااه
علا وجهي ابتسامة وغمرني حنين وتداعت ذكريات الماضي..في مهنة التدريس..الطباشير اختفى من المدرجات ..الأقلام والداتا شو وغيرها حلت محله.. ولكن حتة الطباشير لها عبق خاص ..ظللت أتفحصها.. أحركها بين أناملي.. هممت أن ألقى بها في سلة المهملات..ولكن تريثت.. خشيت أن أضيع مفتاحا من مفاتيح الذاكرة وآلة للزمن.. و في هدوء أعدتها إلى الجيب، لتسكن فيه وتسكن معها ذكريات غالية ..

موعد مع..
تولد بعد يومين من وفاة أبيها، تمضي حياتها بدونه .. تشب وتكبر... لم تره ولم تجد من يذكرها به سوى أوراقه ومايرويه الناس عنه. وتمضي السنون وتكون على موعد مع مفاجأة غيرت علاقتها به إلى الأبد؛ إنها الأيرلندية أنجيلين، فقد أرسل إليها أحد الأصدقاء رابطا لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي القسم الأيرلندي كان يبث مقاطع صغيرة من تسجيلات في أرشيفهم للهجات في أيرلندا وكان مقطع منها بصوت أبيها الذي توفي منذ أكثر من أربعين عاما. ونوهت الإذاعة إلى أن مثل هذا الأرشيف الصوتي قد تم إيداعه في متحف في أيرلندا وبإمكان من يرغب الاستماع إلى التسجيلات كاملة مراسلة المتحف. تلقفت أنجيلين نسخة من تسجيلات والدها وكانت لها بمثابة كنز لا يقدر بثمن.
أرخت السمع لصوته وبدأت تتسلل إليها مشاعر لم تعهدها من قبل، فعجائب الصوت البشري وما يولّده داخلنا من صور و عوالم وأصوات وألوان شكلت المداد والفرشاة والألوان لرسم صورته الجديدة في مخيلتها وتبدأ صفحة جديدة من علاقتها به.
فشكرا لمتحف الكلام الأيرلندي وغيره من متاحف وأرشيفات الكلام في العديد من دول العالم على تلك الهدايا النادرة العزيزة ليست فقط لأنجلين وأمثالها، ولكنها للمجتمع ولغته وثقافته وتاريخه الشفوي .. هل يمكن أن يكون هناك متحف مماثل للكلام المصري؟ نأمل في ذلك، ومن يدري عزيزي القارئ فقد يكون أحفادنا وأحفاد أحفادنا على موعد مع أصواتنا وكلامنا ليعود بهم مثل عجلة الزمن إلى عقود وربما قرون خلت، إلى زماننا هذا ولغتنا هذه وحياتنا هذه وليرسم صورا من دم ولحم لنا ولعالمنا.

متحف الطهي المصري..

أذكر كيف كانت والدتي رحمة الله تعالى عليها تضيف البامية الجافة إلى الحبوب أثناء الطحين كي تعزز طعم الخبز الطيب .. وكيف كانت تصنع شعرية يدوية أو باستا بلغة هذه الأيام تفوق الإسباجتي في الطعم. كما كانت تؤجر آلة ضخمة من الحديد تسمى دولاب الشعرية لعمل خزين البيت منها، كان خزين الشعرية يمثل جزءا مهما من معاش البيت مثل خزين الأرز والقمح والذرة.. تقوم بتجفيفها تحت أشعة الشمس ثم في الفرن؛ كي تحفظ الحزين من السوس لاستخدامه من العام إلى العام ..وكانت ربات البيوت يتسابقن في استئجار هذا الدولاب في موسم صنع الشعرية بعد حصاد القمح مباشرة. هذا الطقس اختفى من البيوت مثله مثل العديد من الوصفات والأكلات.. ولم يجد من يوثقه أو يحتفظ بأحد هذه الدواليب قبل اختفائها..
أتذكر أيضا طرق عجن الدقيق وما تتطلبه من جهد كبير في "طب" ولت العجين برفعه إلى أعلى وفرده داخل الإناء بطريقة تجعل الهواء يتخلله. كما لا ننسى الأدعية والذكر المصاحب لعملية العجين والخبز والتخزين ..
تذكرت ذلك أثناء مطالعتي لخبر فريد من نوعه. يقول الخبر إن السلطات الإيطالية قررت إنشاء متحف للمطبخ الإيطالي يوثق وصفات الطهي وأدوات المطبخ عبر العصور.. ويهدف لإحياء الأطباق التاريخية، مثل أول وصفة على الإطلاق لصلصة الطماطم الإيطالية، من أواخر القرن السابع عشر.
أعجبتني فكرة إنشاء متحف للطهي وفوجئت أثناء بحثي على الإنترنت أن المتحف الإيطالي ليس الأول من نوعه، إذ سبقت إليه بلدان أخرى لديها ولع بتراثها في الطهي وتناول الطعام. منها تركيا والتي يمثل المطبخ التركي واحدا من عوامل الجذب السياحي المهمة وأيضا لمحبي الطبخ حول العالم.. وهناك عدد من متاحف الطهي في تركيا..في إسطنبول وغازي عنتاب وأنطاكية كما يقدم المتحف التركي دورات للطهي التقليدى..

المطبخ الفرنسي كان أيضا له نصيب.. حيث أقيم متحف الطهي الفرنسي في مدينة ليون منذ عدة سنوات ضم قوائم طعام ووصفات وأفلاما، فضلًا عن معروضات تفاعلية يمكن من خلالها أن يعرف الزوار المزيد عن أطباق الطعام حول العالم.

وفي العام الماضي ثم افتتاح متحف الطهي الكوري في مدينة أنصونغ بمقاطعة كيونغ كي بغية مساعدة الحالمين بالعمل في مجال الطهي. كما يقوم المتحف بتسجيل إنجازات الطهاة الذين ساهموا في تقدم صناعة الطهي في البلاد.

وفي متحف الشوكولاتة في كولونيا في ألمانيا تأخذك العروض باللغتين الإنجليزية والألمانية في رحلة إنتاج الشوكولاتة بدءا بأشجار الكاكاو الحية وصولا إلى إنتاج الشوكولاتة.

ومن متاحف الطعام الشهيرة أيضا متحف المكرونة"النودلز" الياباني حيث يوثق مراحل تطورها، ويُعطى المتحف فرصة لزائريه بتجربة طهى المكرونة بأنفسهم والحصول عليها في نهاية جولتهم.

وتتيح عادات الطهي في أى مجتمع لنا فرصة لقراءة تاريخه وتفصح لنا عن الكثير من العادات وطرق التفكير والظروف الاقتصادية والسياسية وعلاقة الإنسان بالبيئة والكائنات في زمن ومكان ما.
وعادات الطهي والأكلات المصرية بما لها من عراقة وتنوع وتناغم مع البيئة وخصوصية تستحق أن تجد لها متحفا يروي للأجيال كيف عاش المصريون عبر السنين ..

الاستعمار طوعا..

في محاولة لوقف الهجرة إلى أوروبا، وتغافلا للجراح والندوب التي خلفها الاستعمار الأوربي، واتساقا مع السياسات المضللة والقاسية والعنصرية للدول الأوربية التي تحاول غسل أيديها من ماضيها الاستعماري وما خلفه من كوارث إنسانية والتملص من مسؤوليتها تجاه اللاجئين وطالبي اللجوء، تفتق ذهن المفوض الألماني للشؤون الأفريقية جونتر نوكي عن حل أثار جدلا واسعا مؤخرا. الحل المقترح ينطوي على وجوب قيام الاتحاد الأوروبي، أو هيئة مثل البنك الدولي، ببناء وإدارة مدن في أفريقيا من أجل تعزيز خلق فرص العمل والتنمية في القارة مما سيحسن حياة المواطنين وتوفير صحة وتعليم أفضل وستقدم نموذجا للحكم الفعال وتوفر نوعية حياة جيدة، مما يمنع الناس من الهجرة.

وقال السيد نوكي إن هذا سيعني أن الدول الأفريقية ستسمح بتأجير جزء من أراضيها لهيئة أجنبية للسماح بالتنمية الحرة لمدة 50 عاما، وأن المدن ستعمل بموجب مجموعة من القوانين المنفصلة عن البلد المضيف.

البعض رفض الفكرة معللا أن رائحة الاستعمار تفوح منها، فيما تحمس البعض لها، واصفين إياها بأنها محاولة حقيقية لضمان استفادة الأفارقة ودول العالم الثالث من تجربة مفيدة.

معارضو الفكرة يرون أيضا أن المناطق الاقتصادية الخاصة لن تفيد سوى الأغنياء، وستخلق مجتمعات مسورة مغلقة علي أهلها تعيش في ظل قواعد منفصلة عن بقية البلاد.

إن الاستعمار القديم بوجهه السافر المتمثل فى غزو البلاد واستغلال ثرواتها لم ولن ينتهي، وهناك أيضا الاستعمار الجديد وقد اتخذ أشكالا ناعمة للفتك بالدول وبمقدراتها مثل العولمة واتفاقيات التجارة العالمية والانترنت ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والنزعة الاستهلاكية وغيرها..
والسؤال الآن لماذا تصر الدول الكبرى على اللعب بنفس الأوراق القديمة، وتصر بعض الدول على الوقوع فى ذات الفخ ويفتحون الأبواب للاستعمار طوعا بدلا من البحث عن حلول وطنية توائم المجتمعات وتجد فيها حاضنة تذود عنها ؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق